عالم

أداة جيوسياسية أمريكية.. الرسوم الجمركية تعيد تشكيل موازين القوى العالمية

لم تكن السياسات التجارية التي انتهجها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” مجرد خلافات حول أسعار السلع أو توازن الميزان التجاري، بل كانت تحولًا جذريًا في مفهوم القوة والنفوذ والسيطرة على الساحة العالمية، فبدلاً من الاعتماد الكلي على الأدوات الدبلوماسية والعسكرية التقليدية، استخدم “ترامب” التعريفات الجمركية كأداة اقتصادية محورية لإعادة تشكيل العلاقات الدولية، مبرهنًا على أن القوة الاقتصادية يمكن أن تُصبح سلاحًا فعالًا لفرض الإرادة وتحقيق الأهداف الجيوسياسية.

ولم تكن التعريفات الجمركية مجرد إجراءات وقائية للصناعات الأمريكية، بل كانت جزءًا من استراتيجية أوسع لإعادة تعريف القوة، استخدمها “ترامب” لمعاقبة الخصوم وزيادة الإيرادات، وتحفيز الاستثمار في قطاع التصنيع الأمريكي، والأهم من ذلك، لترجيح كفة النظام التجاري العالمي لصالح الولايات المتحدة، هذا النهج حوّل السياسة التجارية إلى أداة قسرية للضغط على الدول للامتثال للمطالب الأمريكية، سواء كانت اقتصادية أو سياسية، وعلى سبيل المثال، التهديد بفرض رسوم جمركية على كندا والمكسيك، رغم وجود اتفاقيات تجارية، لم يكن فقط بهدف إعادة التفاوض على شروط التجارة، بل عكس رغبة في فرض “شروط جديدة” تُعزز النفوذ الأمريكي في العالم.

إن تصريحات الأمينة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “ربيكا جرينسبان”، بأن “غياب القدرة على التنبؤ والثقة” يُشلّ القرارات الاقتصادية، وتُشير إلى أن “ترامب” لم يكن يهدف فقط إلى الفوز في “حرب تجارية”، بل إلى زعزعة النظام الاقتصادي العالمي القائم على القواعد الذي ساهمت الولايات المتحدة نفسها في تأسيسه لعقود، وبتهديد منظمة التجارة العالمية وتجاهل أحكامها، أرسل ترامب رسالة مفادها أن القواعد يمكن أن تتغير، وأن القوة الاقتصادية وحدها كفيلة بفرض “المعايير الجديدة”.

هذا التكتيك يُقلب الموازين التقليدية للدبلوماسية، حيث تُصبح التهديدات الاقتصادية جزءًا لا يتجزأ من الحوار السياسي، عندما تُصبح الرسوم الجمركية أداة لمعاقبة دول مثل البرازيل، أو لفرض ضغوط على الصين بسبب قضايا تتجاوز التجارة، فإننا نشهد تحولًا في كيفية ممارسة القوة، فالقوة هنا لا تُقاس فقط بحجم الجيوش أو الاتفاقيات الدبلوماسية، بل بمدى القدرة على فرض تكاليف اقتصادية باهظة على الأطراف الأخرى.

وتُشكل تصريحات “ترامب” وتعريفاته الجمركية المفروضة قسرًا، إشارات واضحة على تحول جذري في مفهوم التجارة العالمية، ليس فقط كنشاط اقتصادي بحت، بل كأداة للسياسة الخارجية وممارسة للنفوذ، وتحوّلت من مجرد أدوات لحماية الصناعة إلى أسلحة ضغط سياسي واقتصادي، استُخدمت لمعاقبة الخصوم والحلفاء على حد سواء، و لفرض هيمنة تجارية وإعادة تشكيل موازين القوى العالمية، وأدت هذه السياسات إلى تأثير مدمر على الدول النامية والاقتصادات الهشة من خلال خفض الصادرات وتهديد مستويات المعيشة وزيادة البطالة والاضطرابات، بالإضافة إلى تغيير مسار سلاسل التوريد العالمية.

وباختصار، حولت سياسة “ترامب” التعريفات الجمركية من مجرد أداة تجارية إلى سلاح اقتصادي جيوسياسي، فلقد غيرت هذه السياسة مفهوم القوة في العلاقات الدولية، مُبرهنةً على أن الدول القادرة على فرض تكاليف اقتصادية كبيرة يمكنها تحقيق أهداف سياسية تتجاوز التجارة، والسؤال الآن هو: هل سيستمر هذا التحول في تعريف موازين القوى العالمية، أم أنها مجرد مرحلة انتقالية في عالم يواصل التكيف مع ديناميكيات جديدة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *