بعد انتقادات واسعة، قرر الرئيس عبد الفتاح السيسي تشكيل لجنة لتقييم موقف نقل المقابر التاريخية في منطقتي السيدة نفيسة والإمام الشافعي في القاهرة، في خطوةٍ من شأنها تهدئة الشارع.
بدأت الأزمة في شهر يوليو عام 2020 عندما كشفت محافظة القاهرة النقاب عن مسار محور “الفردوس” المروري الممتد إلى 9 كيلومترات؛ بهدف تيسير الحركة المرورية المتبادلة بين وسط القاهرة وكل من الطريق الدائرية ومدن شرق العاصمة.
ولتحقيق ذلك، أصدرت المحافظة قرارًا بإزالة 2700 مقبرة في نطاق ما يعرف بـ”القاهرة الفاطمية”، يفترض أنها تعترض مسار المحور، ونقلها إلى أماكن جديدة في مدينتي 15 مايو والعاشر من رمضان.
لكن بين المقابر المقرر هدمها، ترقد شخصيات تاريخية مثل شيخ الأزهر الأسبق محمد مصطفى المراغي، والشاعر والسياسي محمود سامي البارودي، وعميد الأدب العربي الأديب طه حسين، فضلا عن مقابر لعدد من الأمراء والمماليك.
ولهذا عبر كثيرون عن غضبهم من “محو تاريخ مصر بإزالة مقابر رموزها”، وتقدم نوابٌ بطلبات إحاطة لوقف هدم المقابر وتطويرها لتصبح نقطة جذب سياحي.
وسبق أن نفى الرئيس خلال سبتمبر الماضي، ما تردد عن هدم أي مقابر لشخصيات تاريخية أو مؤثرة في بلاده، قائلا إنه لا يمكن للدولة أن تُقدم على هذا الأمر، تجاه مناطق فيها مقابر لشخصيات نقدرها ونحترمها أو في المناطق الأثرية”.
ومع تواصل الجدل، خرج عضو مجلس الشيوخ، النائب محمد فريد، بمقترحٍ يراه “حلا نهائيا وحضاريا، للأزمة التي تثار على فترات”، فقد اقترح في يناير الماضي إقامة مقبرة للعظماء داخل العاصمة الإدارية الجديدة لتخليد أسماء عظماء مصر، وجعل مثواهم الأخير على قدر قيمتهم وبقيمة مدى تأثيرهم في الناس خلال حياتهم على غرار مقبرة “البانثيون” بالحي اللاتيني في باريس.
ويتضمن مقترح النائب فريد، خلال اجتماع للجنة الثقافة والإعلام والسياحة والآثار بمجلس الشيوخ، تشكيل لجنة علمية لاختيار الشخصيات التي سيوضع رفاتها ضمن تلك المقبرة.
ومع أن هذا المقترح تعرض إلى انتقادات كثيرة لغياب معايير اختيار الشخصيات التي ستدفن في تلك “مقبرة العظماء” هذه، إلا أنه فيما يبدو لقِيَ صدى لدى الدولة، فقد وجه الرئيس بالفعل بتشكيل لجنة برئاسة رئيس الوزراء، تضم جميع الجهات المعنية والأثريين المختصين والمكاتب الاستشارية الهندسية، لتقييم الموقف بشأن نقل المقابر بمنطقة السيدة نفيسة والإمام الشافعي”.
وذكر بيان الرئاسة أن اللجنة ستعمل أيضًا على “تحديد كيفية التعامل مع حالات الضرورة التي أفضت إلى مخطط التطوير، على أن تقوم اللجنة بدراسة البدائل المتاحة والتوصل لرؤية متكاملة وتوصيات يتم الإعلان عنها للرأي العام قبل يوم الأول من يوليو 2023”.
وقرر السيسي إنشاء مقبرة تسمى “مقبرة الخالدين” في موقع مناسب، لتكون صرحا يضم رفات عظماء ورموز مصر من ذوي الإسهامات البارزة في رفعة الوطن، على أن تتضمن أيضاً متحفاً للأعمال الفنية والأثرية الموجودة في المقابر الحالية، ويتم نقلها من خلال المتخصصين والخبراء، بحيث يشمل المتحف السير الذاتية لعظماء الوطن ومقتنياتهم.
من جهته، قال رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، إن الهدف هو نقل المقابر لمكان أكثر إنسانية، موضحا أن هناك مقابر من الممكن أن تنهار، وأن هناك بدائل لتطوير هذه المقابر، بجانب حلول وبدائل كثيرة.
وأضاف مدبولي، في تصريحات للصحفيين بعد جولة في منطقة مقابر صلاح سالم، أن توجيه الرئيس بإنشاء “مقبرة الخالدين” هدفه “إعلاء شأن زعمائنا”، مؤكدا أن الدولة حريصة على الحفاظ على القاهرة التاريخية ولا يمكن أن تدمر هذا التراث.
وبينما كان مدبولي في جولته، إذ لاحظ ارتفاع منسوب مياه الصرف في مقبرة الزعيم الراحل أحمد عرابي، فاستتنكر الأمر وقال “لا يعقل أن تكون مقبرة الزعيم أحمد عرابي بهذا الشكل”، متعهدًا بـ”إعادة صياغة هذه المنطقة”.
وأوضح أن الوضع الراهن للمقابر يشير إلى أن منسوب المياه الجوفية بهذه المنطقة أصبح يؤثر سلبا على عملية الدفن فيها، إلى حد عدم التمكن من الدفن أسفل الأرض، وكان ذلك سببا جوهريا وراء عملية نقل جانب منها، لا سيما أن البعض بات يقوم بالدفن أعلى سطح الأرض.
وأكد رئيس الوزراء أن عملية النقل “لن تمس الشكل التاريخي للمقابر العريقة، بل سيكون هناك مراعاة لتنفيذ البدائل بشكل حضاري مُماثل”.
وأثنى الدكتور حسين عبد البصير، الخبير الأثري ومدير متحف مكتبة الإسكندرية، على قرار إنشاء مقبرة الخالدين، معتبرا أنه “يسهم في إنهاء الجدل بشأن إزالة مقابر الرموز التاريخية، ويوفر حلا عمليا ناجعا يضمن تقدير مصر لأبنائها من صناع الفكر والتاريخ”.
وقال في تصريحات صحفية إن هذه المقبرة “ستصبح بمثابة ذاكرة للأجيال القادمة كما يمكن استغلالها كمزار سياحي مهم من مزارات السياحة الثقافية”.
فيما يرفض المتخصص في الآثار والحضارة الإسلامية المصرية معاذ لافي، الطريقة “القاسية” التي تتعامل بها الحكومة مع هذه المقابر، قائلا إنه لو كان الدافع هو إنهاء أزمة المرور، فإن الحل يكون من خلال سياسات مرورية تشمل تطوير وسائل النقل العام وضبط منظومتها”، وليس بهدم المقابر.
وقال “المنطقة أصبحت جبانة منذ دخول عمرو بن العاص مصر عام 640 ميلادي، وأخشى أن يضيع كثير من هذا التاريخ الطويل الآن. أتخيل أنه في غضون خمس سنوات، لن نجد أي شيء باستثناء ربما 20 بالمئة من مدينة الموتى التي عهدناها”.
وبين مؤيدٍ ورافض، يقترح الدكتور خالد عزب، خبير المخطوطات والتراث، والرئيس السابق للجنة الوطنية للمتاحف، حلًا يصفه بالحل الوسط “حتى لا نفقد السياق التاريخي الأثري لتلك المقابر، وفي الوقت نفسه نتيح الفرصة لخطط التنمية والعمران في منطقة القاهرة التاريخية”.
مضمون هذا الحل، هو عدم الاكتفاء بنقل رفات رموز مصر فقط إلى المقبرة الجديدة، بل أيضًا نقل الأضرحة ذات الطرز المعمارية الفريدة بما تتضمنه من قباب وخطوط وألوان وغيرها من المواد الأثرية المستخدمة، في البناء كما هو الحال في مقابر أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم ومصطفى باشا فهمي على سبيل المثال لا الحصر.
كما يقترح الخبير أيضا “تنظيم مسابقة معمارية كبرى لاختيار أفضل تصميم معماري يليق بمقبرة الخالدين المنتظرة، مع ضرورة وضع معايير واضحة لتحديد ماهية من هم هؤلاء الخالدين وعلى أي أساس سوف يتم اختيارهم”.
وتعد القاهرة واحدة من المدن التاريخية التي صُنّفت ضمن قوائم منظمة الـيونيسكو عام 1979 لامتلاكها تراثا عالميا إنسانيا يمثل قيما حضارية وثقافية، من جهتها، ولذلك تشدد اليونيسكو على ضرورة الحفاظ على المنطقة، مشيرة إلى أنها ستدرس القضية في سبتمبر المقبل.