
رباب الشاذلي
تواصل مصر ترسيخ مكانتها كمحرك رئيسي للتكامل الاقتصادي في القارة الأفريقية، من خلال تبني رؤية شاملة ترتكز على التحول الرقمي كمدخل أساسي لتعزيز التجارة والاستثمار، حيث جاءت مشاركة مصر الفاعلة في قمة الكوميسا الرابعة والعشرين لتؤكد هذا التوجه، بإعلان دعمها لتدشين منصات إلكترونية موحدة لتبادل المعلومات والفرص الاستثمارية بين الدول الأعضاء، في خطوة تمثل انتقالًا من مرحلة الاتفاقيات الإطارية إلى مرحلة التنفيذ الفعلي والربط الإلكتروني بين الأسواق الأفريقية.
تشير الإحصاءات الصادرة عن منظمة التجارة العالمية إلى أن التجارة البينية بين دول القارة لا تزال محدودة، إذ لا تتجاوز 15% من إجمالي التجارة الأفريقية، مقابل أكثر من 60% في الاتحاد الأوروبي، وقرابة 50% في آسيا، هذه الفجوة الكبيرة تسعى القاهرة إلى تقليصها عبر رقمنة الإجراءات وتوحيد قواعد المنشأ والتعريفة الجمركية وتطوير البنية الرقمية للتجارة عبر الحدود.
وتعد مصر من أوائل الدول الموقعة على اتفاقية التجارة الحرة الثلاثية التي تضم تكتلات الكوميسا والسادك وجماعة شرق أفريقيا، وهي اتفاقية تغطي سوقًا قارية تضم 54 دولة، بإجمالي ناتج محلي يتجاوز 3.4 تريليون دولار، ما يجعلها أكبر كتلة تجارية في أفريقيا من حيث الإمكانات السوقية والموارد الطبيعية والبشرية.
وفي ضوء هذه الرؤية، تستهدف مصر مضاعفة حجم التجارة البينية بين دول الكوميسا خلال الأعوام الخمسة المقبلة، بعد أن بلغت قيمتها نحو 12 مليار دولار في عام 2024.
وتشير تقديرات وزارة التجارة والصناعة إلى أن تطبيق المنصات الإلكترونية الجديدة وتوحيد البيانات الجمركية واللوجستية يمكن أن يرفع هذه القيمة إلى 25 مليار دولار بحلول عام 2030، من خلال تعزيز التواصل المباشر بين المصدرين والمستوردين في القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية.
كما تعمل القاهرة، بالتنسيق مع مؤسسات الكوميسا، على استكمال جداول التعريفة الجمركية الموحدة وقواعد المنشأ، وهي الخطوة التي من شأنها خفض زمن الإفراج الجمركي بنسبة تصل إلى 40%، وتقليل تكلفة النقل والتداول عبر الحدود بنحو 30%، وفقًا لتقديرات جهاز حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية وهيئة تنمية الصادرات.
ويؤكد خبراء الاقتصاد أن المنصات الإلكترونية الموحدة التي تروج لها مصر ستتيح للمستثمرين الوصول إلى أكثر من 10 آلاف فرصة استثمارية مباشرة داخل دول الكوميسا، عبر قاعدة بيانات رقمية محدثة تربط بين المؤسسات الصناعية وسلاسل الإمداد في مختلف القطاعات.
و تتحول مصر إلى مركز محوري لتبادل المعلومات والفرص الاستثمارية في القارة، خاصة في ظل ما تمتلكه من بنية تحتية رقمية متطورة وشبكات نقل تربط شمال القارة بجنوبها عبر محور القاهرة – كيب تاون.
وفي سياق متصل، أطلقت مصر مبادرات وطنية مكملة، أبرزها المنصة القومية للتجارة الإلكترونية (TradeNet)، ونظام النافذة الواحدة الجمركية (ACI)، اللذان يهدفان إلى تبسيط إجراءات الاستيراد والتصدير وتحسين بيئة الأعمال.
وقد نجحت هذه الأنظمة في خفض زمن الإفراج عن الشحنات بنسبة تجاوزت 50% خلال عام 2025، بحسب بيانات وزارة المالية.
ويرى محللون أن ربط هذه المنصات الوطنية بالمنظومات الإقليمية في الكوميسا يمثل خطوة استراتيجية لدمج الاقتصاد المصري في السوق الأفريقية الموحدة، وتحويل التحول الرقمي من مجرد أداة تقنية إلى محرك للنمو والتنافسية، كما يعزز ذلك من فرص الشركات المصرية في التوسع داخل الأسواق الأفريقية مستفيدة من الميزة التفضيلية للسلع المنشأ المصري ضمن اتفاقيات الكوميسا وأفكافتا.
إن ما تقدمه مصر اليوم يتجاوز مفهوم التحديث الإداري، ليصبح مشروعًا قاريًا متكاملًا يعيد صياغة بنية التجارة الأفريقية ويحوّلها من تبادل تقليدي إلى منظومة رقمية قائمة على المعرفة والشفافية، وبينما تتقدم القاهرة بثبات نحو ترسيخ موقعها كبوابة اقتصادية واستثمارية رئيسية للقارة، فإنها في الوقت ذاته ترسم ملامح مستقبل جديد للتجارة الأفريقية، قائم على الربط الذكي، والشفافية، والشراكة المستدامة.