اقتصادبنوك وتامين

ترويض غول التضخم يعيد التوازن للأسواق

خفض الفائدة يعزز بيئة الاستثمار..

استمرار تدفقات النقد الأجنبى يحد من آثار زيادة أسعار الوقود المرتقبة

 

يشكل التضخم أحد أهم المؤشرات الاقتصادية التي تترقبها الأسواق والمستثمرون وصانعو القرار في مصر، فبعد سنوات من الضغوط التضخمية القياسية التي شهدتها البلاد، بدأت المؤشرات الأخيرة تعكس مسارًا مختلفًا يتمثل في التراجع الواضح لمعدلات التضخم خلال النصف الأول من عام 2025، لتفتح الباب أمام تساؤلات حول مستقبل الأسعار والسياسات النقدية في الأشهر المقبلة وحتى عام 2027.

بحسب البيانات الرسمية، سجّل معدل التضخم السنوي في مصر تراجعًا ملحوظًا ليصل إلى 12.7% في أغسطس 2025، انخفاضًا من 13.9% في يوليو، ومن 14.9% في يونيو، وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء والبنك المركزي المصري. هذه الأرقام تعكس نجاح السياسات الاقتصادية في كبح جماح الأسعار بعد أن كانت مصر قد واجهت مستويات تضخم تجاوزت 38% في عام 2023، وهو ما اعتُبر حينها أحد أعلى المستويات منذ عقود.

التراجع الأخير لم يكن وليد الصدفة، بل جاء نتيجة منظومة متكاملة من السياسات النقدية والمالية والإصلاحات الهيكلية. فالبنك المركزي المصري خفّض أسعار الفائدة بإجمالي 200 نقطة أساس منذ بداية 2025، آخرها في اجتماع لجنة السياسة النقدية بتاريخ 28 أغسطس، ليصل سعر الإيداع والإقراض لليلة واحدة إلى 22% و23% على التوالي. هذه الخطوة عكست ثقة البنك في مسار التضخم النزولي، بالتوازي مع تحسن ملحوظ في سعر صرف الجنيه أمام الدولار واستقرار سوق الصرف.

من جانب السياسة النقدية، كان البنك المركزي أكثر وضوحًا في استهداف التضخم باعتباره الخطر الأكبر على استقرار الاقتصاد. وفي هذا السياق، أوضح محمد الإتربي، رئيس اتحاد بنوك مصر والرئيس التنفيذي للبنك الأهلي المصري، أن التضخم يسير في اتجاه هبوطي، والبنك المركزي كان واضحًا في قراراته التي أتت بثمارها، حيث انخفض المعدل إلى أقل من 13% حاليًا بعد أن تجاوز 38% في فترة سابقة.

وأشار الإتربي إلى أن استمرار خفض الفائدة سيكون في صالح الاستثمار والمقترضين، مشددًا على أن التضخم، إذا تُرك دون سيطرة، يمثل خطرًا أكبر بكثير من ارتفاع أسعار الفائدة.

أما على صعيد السياسات المالية، فقد ركزت الحكومة مؤخرًا على ضبط الإنفاق العام، وتأجيل بعض المشروعات غير العاجلة، تحسين إدارة منظومة الدعم، ورفع كفاءة التحصيل الضريبي دون فرض أعباء إضافية على المواطنين. كما تم توسيع برامج الحماية الاجتماعية وتثبيت أسعار بعض السلع الأساسية بالتعاون مع القطاع الخاص، وهو ما ساعد على تخفيف الضغوط التضخمية على الفئات الأكثر تضررًا.

وتوقّع إيهاب رشاد، نائب رئيس مجلس إدارة شركة مباشر كابيتال، أن يتخذ التضخم مسارًا صعوديًا في النصف الثاني من 2025 ليصل إلى نحو 15% بنهاية العام بسبب زيادات المحروقات.

أما الخبير المصرفي محمد عبد العال، فيرى أن التضخم سيتراجع بنسب تتراوح بين 1% و1.5% ثم يتخذ مسارًا عرضيًا مع ميل للانخفاض حتى نهاية العام، مبررًا ذلك بـ«ضعف القوى الشرائية وانخفاض أسعار مدخلات الإنتاج نتيجة تراجع الدولار».

المؤسسات الدولية أبدت بدورها نظرة متفائلة حذرة تجاه التضخم في مصر، حيث توقعت فيتش سولوشنز أن يصل سعر العائد إلى 21% في 2025، و11.25% في 2026، و8.25% في 2027، مع استمرار خفض أسعار الفائدة تدريجيًا.

بينما أكدت موديز أن تزايد مصداقية السياسة النقدية وفعاليتها بعد تحرير سعر الصرف وخفض معدل التضخم، يتيح المجال لمزيد من خفض أسعار العائد، مع الحفاظ على بيئة جاذبة لرؤوس الأموال الأجنبية طويلة الأجل.

وفي الوقت نفسه، أشارت بلومبرج إلى أن تراجع معدل التضخم وارتفاع قيمة الجنيه يسهمان في إفساح المجال أمام البنك المركزي المصري لمزيد من التيسير النقدي.

ورغم الأرقام الإيجابية، إلا أن النصف الثاني من العام يحمل تحديات لا يمكن تجاهلها. حيث توقّع عدد من الخبراء تسارع معدلات التضخم نسبيًا في أكتوبر ونوفمبر المقبلين مع تطبيق زيادات مرتقبة في أسعار الوقود والكهرباء.

وفي المقابل، يرى آخرون أن استمرار تدفقات النقد الأجنبي من المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، قد يساهم في تخفيف أثر هذه الزيادات ويحافظ على المسار النزولي للتضخم حتى نهاية العام.

ويتوقع البنك المركزي المصري أن يسجل التضخم متوسطًا يتراوح بين 14% و15% خلال 2025، على أن ينخفض تدريجيًا إلى حدود 11% في 2026، وصولًا إلى مستهدف 7% ±2% بحلول 2027. هذه التوقعات تعكس التفاؤل الحذر في قدرة السياسات الحالية على تحقيق استقرار سعري مستدام.

أما المؤسسات العالمية مثل مورجان ستانلي وصندوق النقد الدولي، فتتوقع أن يبلغ التضخم في مصر ما بين 14% و18% بنهاية 2025، مع أفضل التقديرات عند 12–13%، تمهيدًا لانخفاض أكبر خلال 2026.

وفي هذا السياق، قال أسلم عصام، الخبير المصرفي، إن التراجع الحالي في التضخم يعكس تحسنًا في إدارة السياسة الاقتصادية، ويعزز فرص الاستقرار المالي، ويمنح صانعي القرار مساحة أوسع لمزيد من التيسير النقدي إذا استمر تحسُّن المؤشرات العالمية.

السيناريو الأقرب حتى الآن هو استمرار التضخم في نطاق 14%–15% خلال 2025، مع تراجعه التدريجي نحو 11% في 2026، وصولًا إلى الهدف الرسمي للبنك المركزي عند 7% ±2% بحلول 2027. ليظل التضخم واحدًا من أبرز التحديات أمام الاقتصاد المصري، لكنه في الوقت ذاته يمثل فرصة لإثبات قوة السياسات الاقتصادية واستدامة الإصلاحات الهيكلية التي تتبناها الدولة في هذه المرحلة الحرجة.

يُذكر أن مصر نجحت بالفعل في كبح جماح التضخم خلال الأشهر الماضية عبر مزيج من السياسات النقدية والمالية المدروسة، مدعومة بتحسن في بيئة الاقتصاد الكلي وتدفقات رأس المال الأجنبي. ومع ذلك، يبقى المسار المستقبلي مرهونًا بقدرة الدولة على إدارة الإصلاحات المرتقبة في أسعار الطاقة، وتوازنات السوق العالمية، وتدفق الاستثمارات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *