
في خطوة لم تكن مفاجئة لمن يراقب العلاقة بين القاهرة وصندوق النقد الدولي، أعلن الصندوق رسميًا عن دمج المراجعتين الخامسة والسادسة لبرنامج الدعم المالي الموقع مع مصر بقيمة 8 مليارات دولار، وهو ما يعني تأجيل صرف شريحة تمويلية كانت مقررة في خريف 2024 إلى حين تنفيذ مراجعة موحدة بات متوقعًا الانتهاء منها خلال خريف 2025، أي بعد نحو عام من موعدها المفترض.
ورغم أن الحكومة المصرية التزمت الصمت في البداية، فإن وزير المالية الدكتور أحمد كوجك خرج بتصريح بعد أيام، قال فيه إن الحكومة تتوقع الانتهاء من المراجعة المجمعة بحلول سبتمبر أو أكتوبر المقبلين، ما يمهد الطريق لصرف شريحتين تمويليتين بقيمة إجمالية تقارب 2.5 مليار دولار.
وبينما يصف الصندوق القرار بأنه «فرصة لمنح السلطات مزيدًا من الوقت»، فإن مراقبين رأوا فيه أكثر من مجرد خطوة إدارية، بل رسالة مزدوجة تجمع بين التحفيز والتحذير: تحفيز على الإسراع بالإصلاحات، وتحذير من التباطؤ في تنفيذ التعهدات، خصوصًا ما يتعلق ببرنامج الطروحات وتوسيع دور القطاع الخاص.
ضغوط أم تمديد مهلة؟
في أحد التفسيرات، يرى البعض أن قرار الصندوق يحمل ضغوطًا سياسية واقتصادية غير مباشرة. الدكتور علي الإدريسي، أستاذ الاقتصاد الدولي، قال إن “القرار يعكس حالة من الترقب وعدم الرضا من جانب المؤسسة الدولية تجاه وتيرة الإصلاحات”، معتبرًا أن “الصندوق يستخدم هذه الأداة لدفع الحكومة إلى تسريع تنفيذ المستهدفات، خصوصًا في ملف التخارج من الأصول”.
ولفت الإدريسي إلى أن الحكومة لم تحقق سوى نحو 2.3 مليار دولار من بيع الأصول حتى منتصف 2025، أغلبها من صفقة تطوير رأس الحكمة، مقابل مستهدف لا يقل عن 3.6 مليار دولار كان يجب تحقيقه قبل نهاية يونيو وفقًا للمراجعة الخامسة.
لكن هناك من يرى الصورة من زاوية مختلفة. الدكتور هاني عادل، الخبير المصرفي، قال إن الدمج لا يعني التأجيل بالضرورة، بل “إعادة ضبط للجدول الزمني بما يتناسب مع الواقع الجيوسياسي الجديد”، موضحًا أن “الصندوق أبدى تفهماً للتحديات التي تواجه مصر، خاصة مع استمرار الحرب في غزة وتراجع إيرادات قناة السويس بنحو 6 مليارات دولار”.
محور الخلاف: التخارج وهيمنة الدولة
تتقاطع أغلب التحليلات عند نقطة خلاف مركزية بين مصر والصندوق: تباطؤ الحكومة في التخارج من الأنشطة الاقتصادية وهيمنة الشركات المملوكة للدولة، بما فيها الجهات السيادية، على قطاعات حيوية.
وقالت علياء مبيض، كبيرة الاقتصاديين في “جيفريز إنترناشيونال”، إن “السبب الرئيسي لتأجيل المراجعة هو الإخفاق في تحقيق مستهدفات التخارج”، موضحة أن “الصندوق يعتبر هذا الملف ليس فقط أداة تمويل، بل اختبارًا لجدية الحكومة في تمكين القطاع الخاص”.
وأشار تقرير المراجعة الرابعة، الصادر عن الصندوق منتصف يوليو الجاري، إلى أن التقدم في الإصلاحات الهيكلية “كان مختلطًا”، وأن القطاع العام لا يزال يستحوذ على حصة كبيرة من النشاط الاقتصادي، في ظل غياب معايير شفافة للمنافسة.
من جهته، قال الدكتور مدحت نافع، أستاذ الاقتصاد، إن “البيان الأخير من الصندوق كان متناقضًا في ظاهره، فهو أشاد بالأداء المالي والنقدي، وانتقد الهيكلة، ما يعكس تباينًا في أولويات كل طرف”.
بين القلق والطمأنة
رغم أن القرار لا يعني إلغاء التمويل، فإن البعض حذر من تداعياته على المدى القصير. الخبير الاقتصادي محمد فؤاد رأى أن “الصندوق يربط أي صرف جديد بتحقيق تقدم ملموس، والرسالة الآن واضحة: لا تمويل دون تنفيذ”، محذرًا من أن التأجيل قد يؤثر على توقيت صرف الشريحة الثانية من دعم الاتحاد الأوروبي البالغ 4 مليارات يورو والمقررة قبل نهاية 2025.
لكن في المقابل، هدأ هاني جنينة، رئيس قطاع البحوث في الأهلي فاروس، المخاوف، مؤكدًا أن “مصر ستحصل على الشريحتين دفعة واحدة بعد الانتهاء من المراجعة المجمعة”، مشيرًا إلى أن التدفقات الأجنبية وتحسن الاحتياطي دعما موقف العملة المحلية وقللا من الحاجة الفورية للتمويل.
ووفقًا لبيان رسمي للصندوق، فقد تحسن احتياطي النقد الأجنبي وتراجعت معدلات التضخم، لكن الصندوق أكد في الوقت نفسه أن التقدم على صعيد الحوكمة والشفافية لا يزال “أقل من المتوقع”.
رغم الطابع الفني للقرار، يرى بعض المحللين أن السياسة حاضرة في خلفيته. الدكتور مدحت نافع أشار إلى أن “هناك نقاشًا متصاعدًا داخل مجموعة البريكس حول ضرورة إصلاح آليات عمل المؤسسات المالية الدولية”، مرجحًا أن يكون موقف مصر من الحرب في غزة ضمن الاعتبارات غير المعلنة للقرار.
فرصة إنقاذ أم اختبار ثقة؟
يذهب بعض الاقتصاديين إلى اعتبار القرار “فرصة لإعادة ترتيب البيت من الداخل”، وفق تعبير الدكتور مصطفى بدرة، الذي رأى أن “الكرة الآن في ملعب الحكومة المصرية لتقديم خريطة طريق واضحة وواقعية للتخارج وتحسين بيئة الاستثمار”.
وفي الاتجاه ذاته، قال الاستشاري الاقتصادي علي متولي إن البنك المركزي سيتحرك بحذر خلال الشهور المقبلة، وإن استقرار سعر الصرف سيتوقف على استمرار التدفقات الأجنبية، مشيرًا إلى أن “أي خروج مفاجئ للأموال الساخنة قد يضغط على الجنيه ويؤجل خفض الفائدة”.
بين الاستدامة المالية وضغوط الدين
ورغم الجدل حول توقيت صرف الشرائح التمويلية وتأثيرها قصير الأجل، تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى توقعات أكثر عمقًا على المدى المتوسط والطويل، خاصة فيما يتعلق بمستويات الدين الخارجي.
فوفقًا لأحدث تقرير صادر عن الصندوق في يوليو 2025، يُتوقع أن تتجاوز ديون مصر الخارجية حاجز الـ200 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، لتصل إلى نحو 202 مليار دولار بحلول يونيو 2030، مقارنةً بـ162.7 مليار دولار في يونيو 2025.
ورغم هذا الارتفاع في القيمة المطلقة، فإن التقديرات تشير إلى انخفاض نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي من نحو 46% في منتصف 2025 إلى 34% بحلول منتصف 2030، وهو ما يُعزى إلى توقعات بنمو اقتصادي مطرد قد يسهم في تقليص عبء الدين كنسبة من الناتج، إذا ما تم الحفاظ على وتيرة الإصلاحات الحالية وتعزيز مصادر الدخل القومي.
وتُعد هذه الأرقام مؤشرًا مزدوجًا: فهي من جهة تُحذر من تراكم الدين العام، لكنها من جهة أخرى تعكس ثقة مبدئية من جانب الصندوق في قدرة الاقتصاد المصري على التوسّع وتقوية مؤشرات الاستدامة المالية في حال الالتزام الكامل بمسار الإصلاح.