في عالم يشهد اضطرابات اقتصادية متسارعة وتغيرات جذرية في أولويات الدول، برز الأمن الغذائي كأحد أهم ركائز الاستقرار الاستراتيجي والتنمية المستدامة. وفي هذا الإطار، تواصل الصناعات الغذائية المصرية ترسيخ مكانتها كقطاع حيوي ومحرك رئيسي للاقتصاد الوطني، بعدما تحوّلت من نشاط إنتاجي تقليدي إلى صناعة متكاملة تقوم على الابتكار والاستثمار والتصدير، وتساهم بفاعلية في خلق فرص العمل وتعزيز موارد الدولة من النقد الأجنبي.
ورغم التحديات العالمية التي تشهدها سلاسل الإمداد وتقلبات الأسواق، استطاع قطاع الصناعات الغذائية في مصر تحقيق معدلات نمو غير مسبوقة، مدعومًا بتوجه الدولة نحو توطين الصناعات وتعزيز القدرات التصديرية، بما يرسخ مكانة مصر كمركز إقليمي لتصنيع وتصدير المنتجات الغذائية.
وفي هذا السياق، يكشف المهندس أشرف الجزايرلي، رئيس غرفة الصناعات الغذائية باتحاد الصناعات المصرية، في حوار خاص مع البورصجية، عن ملامح هذا القطاع الواعد، متحدثًا بلغة الأرقام عن واقعه الحالي، ورؤيته لمستقبله حتى عام 2030، حيث تتقاطع الأبعاد الإنتاجية واللوجستية مع طموحات التحول الصناعي الشامل الذي تتبناه الدولة لتحقيق التنمية المستدامة.
** كيف تقيّمون المشهد العام لقطاع الصناعات الغذائية في مصر مع اقتراب نهاية عام 2025؟
القطاع يشهد مرحلة تحول إستراتيجي حقيقية، فلم يعد يقتصر دوره على تلبية احتياجات السوق المحلي، بل أصبح ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية والتشغيل، حيث يبلغ إجمالي الاستثمارات في قطاع الصناعات الغذائية نحو 500 مليار جنيه، فيما يتجاوز عدد المنشآت المسجّلة بالغرفة 27 ألف منشأة: كما يساهم القطاع بنحو 24٪ من إجمالي النشاط الصناعي في مصر، ويوفر أكثر من 10 ملايين فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة.
هذه المؤشرات، تؤكد أن الصناعات الغذائية أصبحت من القطاعات القائدة في تحقيق النمو الصناعي خلال عام 2025، بفضل ما تمتلكه من قدرات إنتاجية وتنافسية متنامية.
** إلى أي مدى تمكن القطاع من تحقيق مستهدفاته التصديرية خلال هذا العام؟
تجاوزت صادرات الصناعات الغذائية المصرية حاجز 10 مليارات دولار في عام 2024، ونسعى للوصول إلى 11 مليار دولار بنهاية 2025، هذا الهدف يتطلب منظومة متكاملة تشمل النقل والتخزين والتسويق الدولي، مع التركيز على زيادة نسبة التصنيع المحلي للمنتجات قبل تصديرها، لأن القيمة المضافة هي التي تضمن استدامة العائد وتعزيز القدرة التنافسية في الأسواق الخارجية.
** ما حجم صادرات القطاع خلال النصف الأول من عام 2025؟
سجل قطاع الصناعات الغذائية أداءً تصاعديًا خلال النصف الأول من 2025، حيث بلغت قيمة الصادرات نحو 3.365 مليار دولار، وهي أعلى قيمة نصف سنوية على الإطلاق، بزيادة قدرها نحو 6٪ مقارنة بالفترة نفسها من 2024.
كما ارتفعت صادرات الأشهر السبعة الأولى من العام إلى حوالي 4.03 مليار دولار، بمعدل نمو يقارب 8٪ عن العام السابق، ما يعكس استمرار الزخم الإيجابي في الأداء التصديري.
** ما أبرز المنتجات التي قادت نمو الصادرات هذا العام؟
الفراولة المجمدة كانت أبرز الصادرات بلا منازع، حيث سجلت أرقامًا قياسية بلغت نحو 517 مليون دولار خلال فترة المقارنة في 2025. ويعكس هذا الأداء نجاح منظومة سلاسل التبريد الحديثة التي دعمت تنافسية المنتج المصري في الأسواق الأوروبية والآسيوية.
** ما أبرز العقبات التي ما زالت تواجه القطاع؟
التحديات متعددة، أبرزها ارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج وتقلبات سعر الصرف، إلى جانب الحاجة إلى تطوير أكبر في البنية التحتية اللوجستية والتخزينية، كما أن بطء بعض الإجراءات التشريعية يؤثر على كفاءة العمل، بينما يؤدي نقص المستودعات الحديثة إلى زيادة التكلفة النهائية وتراجع جودة بعض المنتجات. لذلك نعتبر الاستثمار في البنية اللوجستية والتخزينية ضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل.
** ما التطورات التي شهدها سوق سلسلة التبريد (Cold Chain) في مصر؟
هناك تدفّقات استثمارية كبيرة في هذا المجال، إذ يُقدّر حجم سوق سلسلة التبريد بأكثر من مليار دولار في 2024، مع توقعات بنمو قوي خلال السنوات المقبلة. يشمل ذلك إنشاء مستودعات متعددة الدرجات الحرارية ومراكز تجميع قرب الموانئ والمناطق الصناعية لدعم الصادرات الطازجة والمجمدة.
** هل شهد عام 2025 شهد طفرة استثمارية في الصناعات الغذائية؟
بالفعل، فقد شهد العام نشاطًا ملحوظًا في الاستثمارات والاستحواذات داخل القطاع، تجاوز بعضها المليار جنيه، وهو ما يعكس ثقة المستثمرين في السوق المصرية، كما أسهمت التسهيلات الحكومية الجديدة في جذب مستثمرين إقليميين يرون في مصر قاعدة إنتاجية مثالية للنفاذ إلى الأسواق الأوروبية والأفريقية.
** كيف يمكن تحقيق التوازن بين تلبية احتياجات السوق المحلية وزيادة الصادرات؟
نعمل على مسارين متوازيين: الأول يركز على توفير السلع الأساسية بأسعار مناسبة بالتعاون مع الجهات الحكومية، والثاني يستهدف زيادة الصادرات وتحسين الجودة والتسويق الخارجي، وتحقيق هذا التوازن يتطلب إدارة رشيدة لسلاسل الإمداد لضمان عدم تأثير التصدير على وفرة السلع في السوق المحلي.
** ما الذي تحتاجه المصانع المصرية لمواكبة معايير الجودة العالمية؟
الالتزام بالمعايير الدولية أصبح ضرورة لا خيارًا، وعلى المصانع الاستثمار في نظم إدارة الجودة والحصول على شهادات المطابقة الدولية، إلى جانب تطوير معامل الفحص والتدريب المستمر للمزارعين. فنجاح المنظومة يتطلب تكامل المزرعة مع المصنع لتحقيق الجودة المطلوبة في الأسواق العالمية.
** كيف تدعم الغرفة الشركات الصغيرة والمتوسطة داخل القطاع؟
نهتم بهذا الملف من خلال برامج الدعم الفني والتدريب، وربط الشركات الصغيرة بالأسواق الإقليمية وتسهيل حصولها على تمويل ميسر، كما نعمل على تحديث قاعدة بيانات المنشآت الصغيرة لضمان اندماجها في سلاسل القيمة الإنتاجية وتعزيز التواصل مع المستثمرين الكبار.
** ما الرؤية الإستراتيجية للغرفة خلال المرحلة المقبلة؟
تتجه أولوياتنا نحو تطوير البنية اللوجستية والمستودعات الاستراتيجية، وزيادة القيمة المضافة في الصادرات، مع السعي لتوفير بيئة تشريعية ونقدية مستقرة تشجع الاستثمار، ونحن نحتاج إلى خطة وطنية متكاملة للصناعات الغذائية حتى عام 2030، تتضمن أهدافًا رقمية واضحة، وتولي اهتمامًا خاصًا بقطاعات النباتات الطبية والأغذية الصحية والبروتينات النباتية باعتبارها مستقبل الصناعة الغذائية في مصر.
** ما حجم مساهمة صادرات الصناعات الغذائية في إجمالي الصادرات المصرية؟
الصناعات الغذائية أصبحت من أهم روافد الصادرات المصرية، إذ تمثل أكثر من 20٪ من إجمالي الصادرات السلعية للدولة. بمعنى آخر، كل خمسة دولارات من الصادرات المصرية يقابلها دولار من المنتجات الغذائية المصنعة محليًا، وهو ما يعزز دور القطاع في تحسين الميزان التجاري وزيادة موارد النقد الأجنبي.




