اقتصادملفات وحوارات

استراحة محارب.. إلى أين وصلت الحكومة في معركة الأزمة الاقتصادية؟

خلال العامين الماضيين، واجه الاقتصاد المصري اختبارًا شديد الصعوبة، بفعل الضغوط الخارجية المتمثلة في اضطرابات سلاسل الإمداد وارتفاع أسعار الطاقة عالميًا، بجانب التحديات الداخلية مثل تقلبات سعر الصرف وارتفاع معدلات التضخم. لكن الأشهر الأخيرة شهدت تحسنًا ملحوظًا في عدة مؤشرات اقتصادية مهمة، دفعت بعض الخبراء والمسؤولين للتأكيد على أن البلاد تجاوزت أصعب مراحل الأزمة، بينما يرى آخرون أن الطريق لا يزال طويلًا نحو تعافٍ مستدام يشعر به المواطن في حياته اليومية.

أحد أبرز المؤشرات الإيجابية التي تصدرت العناوين مؤخرًا هو ارتفاع صافي الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية لدى البنك المركزي المصري إلى 49.036  مليار دولار بنهاية يوليو 2025، مقارنة بـ48.7 مليار في يونيو. هذا التحسن، وفق الخبير المصرفي محمد عبد العال، يعكس زيادة التدفقات الدولارية من صادرات، وسياحة، وتحويلات المصريين بالخارج، إلى جانب تحسن قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها الخارجية، إذ يكفي هذا الاحتياطي لتغطية الواردات لأكثر من سبعة أشهر، في حين أن المعيار العالمي الآمن يشترط ثلاثة أشهر فقط.

كما تلازم هذا الارتفاع مع استقرار ملحوظ في سعر صرف الجنيه أمام الدولار منذ مارس 2024، بعد إجراءات حاسمة لضبط سوق الصرف والقضاء على السوق السوداء للعملات الأجنبية، وهو ما أشار إليه الخبير الاقتصادي هاني قداح باعتباره إنجازًا محوريًا في استعادة الثقة المحلية والدولية.

بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أظهرت تراجع معدل التضخم إلى أقل من 13 بالمئة بعدما تجاوز 24 بالمئة العام الماضي، في خطوة اعتبرتها الحكومة تمهيدًا لخفض أسعار السلع في الأسواق. رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أكد أن التحسن في المؤشرات الكلية يتيح فرصة لخفض الأسعار، مدعومًا بزيادة الاحتياطي النقدي وإيرادات قناة السويس وتحويلات المصريين بالخارج.

المؤسسات الدولية لم تغفل هذه الإشارات؛ فصندوق النقد الدولي تحدث عن “تفاؤل حذر” ونبّه إلى نمو متوقع للاقتصاد بنحو 4 بالمئة في 2024–2025 مع هبوط للتضخم المتوقع إلى مستويات حول 11–12 بالمئة في 2025–2026. وكالة فيتش رفعت تقديراتها للنمو إلى 4.6%، بينما تُشير توقعات أخرى مثل البنك المركزي إلى نمو أسرع نسبياً (4.8 بالمئة في 2025/2026 ثم 5.1 بالمئة في 2026/2027) مع مواصلة دورة التيسير النقدي.

رئيس الوزراء أكّد أن البلاد حققت تحسناً في مؤشرات الأداء الكلي وأن هناك جهودًا منهجية لخفض الأسعار، مع سلسلة اجتماعات مع الغرف التجارية والمستوردين والمصنّعين لمتابعة خفض الأسعار. كما يشير المستثمرون والمحلّلون المصرفيون إلى أن القضاء على السوق السوداء للعملات واستقرار سعر الصرف منذ مارس 2024 يمثلان خطوة محورية لاستعادة ثقة الأسواق.

من جهة أخرى، الدكتور محمد معيط (المدير التنفيذي المكلّف بتمثيل مصر بالمؤسسات) شدد على أهمية الإصلاحات الهيكلية وزيادة الإنتاج لجذب الاستثمار وتوليد العملة الصعبة، مؤكّدًا دور التعليم وتحسين مناخ الاستثمار والشراكة مع الصندوق السيادي في جذب استثمارات نوعية.

من الزاوية الدولية، حافظت وكالة “ستاندرد آند بورز” على نظرتها المستقبلية الإيجابية للاقتصاد المصري، رغم التوترات الإقليمية والتقلبات العالمية، وهو ما وصفه هاني قداح بأنه انعكاس لقدرة الدولة على إدارة التزاماتها الخارجية وتحقيق التوازن المالي. ويعزز هذا التقييم الإيجابي الثقة لدى المستثمرين الأجانب والمؤسسات المالية العالمية، خصوصًا بعد نجاح مصر في سداد نحو 38 مليار دولار من التزاماتها الخارجية خلال عام 2024.

إلى جانب المؤشرات النقدية، أظهر مؤشر مديري المشتريات (PMI) الصادر عن ستاندرد آند بورز جلوبال ارتفاعًا إلى 49.5 نقطة في يوليو، مقارنة بـ48.8 في يونيو، ليقترب من مستوى الـ50 نقطة الذي يفصل بين الانكماش والنمو. هذا التحسن يعكس مرونة الاقتصاد وتعافي النشاط في القطاع غير النفطي، ما قد يبشر بانتعاش الإنتاج وخلق فرص عمل جديدة.

كما ارتفع صافي فائض أصول النقد الأجنبي لدى الجهاز المصرفي إلى 14.94 مليار دولار في يوليو، مقابل 14.7 مليار في الشهر السابق، وهو ما يراه الخبير محمد عبد العال -وفق تصريحات صحفية له- دليلاً على تحسن إدارة السيولة وقدرة البنوك على تمويل الاستثمارات الوطنية.

على صعيد النمو، سجل الاقتصاد المصري معدل نمو بلغ 4 بالمئة في يونيو الماضي، مع توقعات بارتفاعه إلى 4.6 بالمئة بنهاية العام. وتستهدف الحكومة خفض الدين العام إلى نحو 82.9 بالمئة من الناتج المحلي، بعد أن كان متوقعًا أن يبلغ 92 بالمئة في 2024/2025، من خلال سياسات مالية أكثر انضباطًا وإصلاحات بالتعاون مع صندوق النقد الدولي.

رغم التحسن في المؤشرات الكلية، يظل التحدي الأكبر ماثلًا في تأخر انعكاس هذه التحسينات على حياة المواطنين. فأسعار العديد من السلع، خصوصًا الخضروات والفواكه والسلع المعمرة، لا تزال مرتفعة نسبيًا. ويعزو الخبير الاقتصادي أحمد مصطفى ذلك إلى استمرار ارتفاع تكاليف الإنتاج، بما في ذلك أسعار الوقود والطاقة والعمالة، إضافة إلى أسعار مدخلات الإنتاج المستوردة. كما أن حالة عدم اليقين لدى بعض التجار تدفعهم للتريث في خفض الأسعار، في ظل ذكريات فترة تقلب سعر الصرف، وهو ما يبطئ وتيرة التحسن في الأسواق.

إلى هذا، تظل المديونية الخارجية تحديًا قائمًا أمام سرعة توجيه الموارد إلى الاستثمار الإنتاجي، إذ تشير تقارير البنك المركزي إلى التزامات مستحقة حتى نهاية العام تقدر بنحو 20 مليار دولار. ويوضح اقتصاديون أن توفير هذه السيولة يتطلب استمرار تدفقات الدولار بوتيرة قوية، ما يفرض قيودًا على خطط التوسع السريع في الإنفاق التنموي.

ويرى الخبراء أن استدامة التعافي تتطلب تحولًا من تحسين المؤشرات الكلية إلى تحسين ملموس في القوة الشرائية للمواطن. محمود عبد اللطيف، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، يشير في تصريحات صحفية إلى أن استمرار استقرار سعر الصرف وتراجع التضخم قد يمهدان لانخفاض تدريجي في الأسعار، لكن ذلك يحتاج إلى سياسات تستهدف دعم القطاعات الإنتاجية وضبط الأسواق لضمان المنافسة.

في المقابل، يشدد هاني قداح على ضرورة استكمال الإصلاحات الهيكلية، خاصة في مجالات تعزيز الإنتاج المحلي، وتوسيع قاعدة التصدير، وجذب الاستثمارات النوعية في الطاقة المتجددة والتكنولوجيا والتصنيع. كما يلفت إلى أهمية التحول الرقمي، وإصلاح الجهاز الإداري، وتوسيع الشراكات مع القطاع الخاص لتحقيق نمو شامل ومستدام.

لكن ليس كل الخبراء متفائلين بنفس الدرجة. منطق هؤلاء الخبراء يقول إن المؤشرات الكلية -حتى لو كانت جيدة- لا تتحوّل فورًا إلى تحسّن ملموس في مستوى معيشة الأسر، ما لم تتزامن مع سياسات تستهدف خفض تكاليف الإنتاج وتحسين شبكة التوزيع، وكذلك زيادة الأجور الحقيقية وفرص العمل.

الخبير الاقتصادي، د. رشاد عبده وصف تصريحات الحكومة بأنها “للاستهلاك المحلي” واعتبر أن الأزمة لم تنته، مستندًا إلى استمرار ارتفاع أسعار السلع وتراجع إيرادات قناة السويس وتحفُّظات على عودة تحويلات العاملين بالخارج لمستوياتها السابقة.

من جهته، أشار الخبير الاقتصادي عبد النبي عبد المطلب إلى أن تراجع التضخم إلى نحو 15بالمئة (في تقديره) لا يعني تحسّنًا حقيقيًا، خصوصًا مع فائدة واقعة عند حدود 20 بالمئة، ما يجعل الفجوة بين الفائدة والتضخم واسعة للغاية مقارنةً بما ينبغي أن تكون عليه (فجوة ضيقة 1–2 بالمئة. كما تساءل -في تصريحات صحفية- عن سبب مطالبة الحكومة لصندوق النقد بتأجيل المراجعة الخامسة ودمجها مع السادسة إذا كانت الأزمة قد عبُرت بالفعل؟ ليضيف: “وماذا عن إعلان تأجيل رفع شرائح الكهرباء والغاز والمياه إلى أكتوبر؟ هذه مؤشرات عملية تدل على أن القرار السياسي ما زال يتعامل مع ضغوط ملموسة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *